فصل: لطائف التفسير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة.
قال الفخر الرازي: أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل} أبو بكر رضي الله عنه، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز. فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين. ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله: {والسعة} تكريرًا. فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو السعود: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} أي في الدين، وكفى به دليلًا على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {أَن يؤتوا} فيه حذف بالإيجاز، فقد حذفت منه لا لدلالة المعنى على ذلك، أي على أن لا يؤتوا. قال الزجّاج، إنّ لا تحذف في اليمين كثيرًا قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا. وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا

أي لا أبرح.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} هذا خطاب بصيغة الجمع، والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9].
قال الإمام الفخر رحمه الله: فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه وحين سمعها أبو بكر قال: بلى أحب أن يغفر الله لي. وأعاد النفقة إلى مسطح.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} قال العلامة ابن الجوزي: فإن قيل: لم أقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلابد أن يرمي معها مؤمنًا، فاستغني عن ذكر المؤمنين. ومثله قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أراد: والبرد، قاله الزجاج.
اللطيفة الخامسة: ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن أجمعين، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولًا أوليًا، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام ل بيت النبوّة، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات، من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم تلا هذه الآية {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره.
اللطيفة السادسة: أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات} إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها، وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين، وأفضل الأولين والآخرين، تبيّن أنّ الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب النساء بالضرورة، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ويا لها من شهادة قاطعة!!
قال أبو السعود: هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلهية، الجارية فيما بين الخلق، على موجب أنّ لله ملكًا يسوق الأهل إلى الأهل، لأن المجانسة من دواعي الانضمام... وما في الإشارة من معنى البعد أولئك للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبعد منزلتهم في الفضل، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
اللطيفة السابعة: قال الزمخشري في تفسيره الكشاف: لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة: برّأ يوسف بلسان الشاهد {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} [يوسف: 26]. وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه.. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها {إِنِّي عَبْدُ الله} [مريم: 30]. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدّم قدمه، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه.

.خصائص السيدة عائشة رضي الله عنها:

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لقد أُعطِيتُ تسعًا ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرًا وما تزوّج بكرًا غيري.
ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي. ولقد حفّته الملائكة في بيتي. وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنه خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب. ولقد وعدت مغفرة ورزقًا كريمًا.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي؟

أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} مِسْطَح، لأنه كان قريبًا لأبي بكر، وكان من المساكين، والمهاجرين البدريّين، وكان قد وقع في حديث الإفك، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك، ولا شك أن القذف من الذنوب والكبائر، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف مسطحًا بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجرًا لم يحبط بإقدامه على القذف. وقالوا: لا يحبط العمل إلا بالإشراك، والردة عن الإسلام والعياذ بالله، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] وقال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} [البقرة: 217] الآية.

.الحكم الثاني: هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان؟

اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه، لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} والأمر هنا للندب والإرشاد، وليس للوجوب، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه، فلو كان العفو واجبًا لما جاز طلب القصاص، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه» فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ}؟ فعلّق الغفران بالعفو والصفح، قال الإمام الفخر: ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى.

.الحكم الثالث: هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه؟

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه».
فتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك.
وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه، واستدلوا بظاهر هذه الآية {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته».
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي:
أ- قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية.
ب- وقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره.
ج- وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] والحنث كان خيرًا من تركه، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة.
د- وبحديث «فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» وقد تقدم.
قال الجصاص: أم استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وقوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره، وأما استدلالهم بالحديث: «فليأت الذي هو خير وذلك كفارته» فإن معناه تكفير الذنب. لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف.
وقال ابن العربي: عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ثم رجَّع إليه نفقته، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء.
الترجيح: ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقًا وضعف رأي غيرهم والله أعلم.

.الحكم الرابع: هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟

تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عز وجل في قوله: {وافعلوا الخير} [الحج: 77]. قال الفخر الرازي: في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير، لا صارفة عنه.
وقال الألوسي: وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو للكراهة، وقيل: إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حرامًا، وقد يكون مكروهًا، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقًا.

.الحكم الخامس: هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين؟

ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته.
وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين، طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام.
قال العلامة الألوسي رحمه الله: وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجلّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعوِّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين، بعد نزول الآيات، وتبيّن أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقًا غير ظاهر.
والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحًا، أو قاصدًا الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أُبيّ لعنه الله تعالى، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان. ومِسطَح، وحمنة، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليدًا، فوبخوا على ذلك توبيخًا شديدًا.
أقول: إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر، فكيف بمن يستحل قف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم، ونزلت براءتها من السماء؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم، تكذيب لله عز وجل في إخباره، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات، الطاهرات، الشريفات، فيكون قاذفهن كافرًا بلا تردد. والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57].